فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأصل التمثال: الشيء المصنوع مشابهًا لشيء من مخلوقات الله سبحانه، يقال: مثلت الشيء بالشيء: إذا جعلته مشابهًا له، واسم ذلك الممثل تمثال، أنكر عليهم عبادتها بقوله: {مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عاكفون} والعكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء، واللام في {لها} للاختصاص، ولو كانت للتعدية لجيء بكلمة على، أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وقيل: إن العكوف مضمن معنى العبادة.
{قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين} أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز، والحبل الذي يتشبث به كل غريق، وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء، أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشيًا على طريقتهم، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية، وإن العالم بالكتاب والسنّة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل قالوا: هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين، وجوابهم: هو ما أجاب به الخليل ها هنا {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضلال مُّبِينٍ} أي في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد ولا يلتبس على ذي عقل، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر، وليس بعد هذا الضلال ضلال، ولا يساوي هذا الخسران خسران، وهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسنّة رسوله كتابًا قد دوّنت فيه اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها، إما لقصور منه أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده وأبرزه واضح المنار:
كأنه علم في رأسه نار

وقال: هذا كتاب الله أو هذه سنّة رسوله، وأنشدهم:
دعوا كل قول عند قول محمد ** فما آمن في دينه كمخاطر

فقالوا كما قال الأول:
ما أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وأن ترشد غزية أرشد

وقد أحسن من قال:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ** ومنهج الحقّ له واضح

ثم لما سمع أولئك مقالة الخليل قالوا: {أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} أي أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ قال: مضربًا عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض الذى فطَرَهُنَّ} أي خلقهنّ وأبدعهنّ {وَأَنَاْ على ذلكم} الذي ذكرته لكم من كون ربكم هو ربّ السموات والأرض دون ما عداه {مّنَ الشاهدين} أي العالمين به المبرهنين عليه، فإن الشاهد على الشيء هو من كان عالمًا به مبرهنًا عليه مبينًا له.
وقد أخرج أحمد والترمذي، وابن جرير في تهذيبه، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن عائشة أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا لا عليك ولا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصّ لهم منك الفضل، فجعل الرجل يبكي ويهنف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ كتاب الله: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين} فقال له الرجل: يا رسول الله، ما أجد لي ولهم خيرًا من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار».
رواه أحمد هكذا: حدّثنا أبو نوح قراد، أخبرنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة، عن عائشة فذكره، وفي معناه أحاديث.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء}.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان} قال: التوراة.
وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه، وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: {الفرقان}: الحقّ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} أي القرآن، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} قال: هديناه صغيرًا، وفي قوله: {مَا هذه التماثيل} قال: الأصنام. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)}.
قوله: {بالحق}: متعلق بـ جِئْتَ. وليس المرادُ به حقيقةَ المجيء؛ إذ لم يكنْ غائبًا. وأم أنت أم متصلةٌ وإنْ كان بعدها جملةٌ لأنها في حكم المفردِ، إذ التقديرُ: أيُّ الأمرَيْن واقعٌ: مجيئُك بالحقِّ أم لَعِبُك؟ كقوله:
ما أبالي أنَبَّ بالحَزْنِ تَيْسٌ ** أم جفاني بظهرِ غَيْبٍ لئيمُ

وقوله:
لَعَمْرُك ما أَدْرِي وإن كنتُ داريًا ** شُعَيْثُ بنُ سَهْمٍ أم شُعَيْثُ بنُ مِنْقَرِ

يريد: أيُّ الأمرَيْنِ واقع؟ ولو كانَتْ منقطعةً لقُدِّرَتْ بـ: بل والهمزةِ، وليس ذلك مُرادًا.
{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}.
قوله: {الذي فطَرَهُنَّ}: يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ الموضعِ، أو منصوبَه على القطع. والضميرُ المنصوبُ في {فَطَرَهُنَّ} للسماواتِ والأرض. قال الشيخ: ولَمَا لم تكنْ السماواتُ والأرض تبلُغُ في العددِ الكَثيرِ منه جاء الضميرُ ضميرَ القلة. قلت: إنْ عنى لم يَبْلُغْ كلُّ واحدٍ من السماواتِ والأرض فمُسَلَّم، ولَكِنه غيرُ مرادٍ بل المرادُ المجموعُ. وإنْ عنى لم يبلُغْ المجموعُ منهما فغيرُ مُسَلَّمٍ؛ لأنه يبلغ أربعَ عشرةَ، وهو في حَدّ جمع الكثرةِ، اللهم إلاَّ أَنْ نقولَ: إنَّ الأرض شخصٌ واحدٌ، وليسَتْ بسبعٍ كالسماء على ما رآه بعضُهم فَيَصِحُّ له ذلك ولَكِنه غيرُ مُعَوَّلٍ عليه.
وقيل: على التماثيل. قال الزمخشري: وكونُه للتماثيل أثبتُ لتَضْليلِهم، وأدخلُ في الاحتجاجِ عليهم. وقال ابن عطية: فَطَرَهُنَّ عبارةٌ عنها كأنها تَعْقِلُ، وهذه من حيث لها طاعةٌ وانقيادٌ، وقد وُصِفَتْ في مواضعَ بوَصْفِ مَنْ يَعْقِلُ. وقال غيرُه: {فَطَرَهُنَّ}: أعادَ ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَا صَدَرَ منهنَّ من الأحوالِ التي تَدُلُّ على أنَّها من قبيل مَنْ يَعْقِلُ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أخبر بقوله: {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11]. وقوله عليه السلام: «أطَّتِ السماء وحُقَّ لها أَنْ تَئِطَّ».
قلت: كأنَّ ابنَ عطيةَ وهذا القائلَ تَوَهَّما أن هُنَّ، من الضمائرِ المختصةِ بالمؤنثات العاقلاتِ، وليس كذلك بل هو لفظٌ مشتركٌ بين العلاقاتِ وغيرها. قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] ثم قال تعالى: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ}.
قوله: {على ذلكم} متعلق بمحذوف، أو بـ: الشاهدين اتساعًا، أوعلى البيان. وقد تقدَّم نظيرُه نحو: {لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21].
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)}.
قوله: {وتالله}: قرأ العامَّة بالتاءِ مثنَّاةً من فوقُ. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل بالباء موحدة. قال الزمخشري: فإن قلتَ: ما الفرقُ بين الباءِ والتاءِ؟ قلت: الباءُ هي الأصلُ، والتاءُ بدلٌ من الواوِ المُبْدَلِ منها، وإنَّ التاءَ فيها زيادةٌ معنىً، وهو التعجبُ، كأنه تَعَجَّبَ من تسهيلِ الكيدِ على يدِه وتَأَتِّيه. أمَا قوله: إن الباءَ هي الأصلُ. فيدلُّ على ذلك تَصَرُّفُها في الباب، بخلافِ الواوِ والتاءِ، وإن كان السهيليُّ قد رَدَّ كونَ الواوِ بدلًا منها.
وقال الشيخ: النظرُ يقتضي أنَّ كلًا منها أصلٌ. وأمَا قوله التعجبُ فنصوصُ النَّحْويين أنه يجوزُ فيها التعجبُ وعدمُه، وإما يلزمُ ذلك مع اللامِ كقوله:
للهِ يَبْقى على الأيَّامِ ذو حِيَدٍ ** بمُشْمَخِرّ به الظَّيَّانُ والآوسُ

و{بعدَ} منصوبٌ بـ: {لأَكِيْدَنَّ}. و{مُدْبرين} حالٌ مؤكّدةٌ، لأنَّ {تُوَلُّوا} تُفْهِمُ معناها. وقرأ العامَّة: {تُوَلُّوا} بضم التاءِ واللامِ مضارعَ ولى مشددًا. وقرأ عيسى بن عمر {تَوَلَّوا} بفتحِهما مضارعَ تولى والأصل تَتَوَلَّوا فحذف إحدى التاءين: إمَا الأولى على رأي هشام، وإمَا الثانية على رأي البصريين. ويَنْصُرُها قراءةُ الجميع {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90] ولم يقرأ أحدٌ فَوَلَّوْا وهي قياسُ قراءةِ الناس هنا. وعلى كلتا القراءتين فلامُ الكلمةِ محذوفٌ وهو الياءُ لأنه مِنْ وَلي.
ومتعلِّقُ هذا الفعلِ محذوفٌ تقديرُه: تُوَلُّو إلى عيدكم، ونحوُه.
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}.
قوله: {جُذَاذًا}: قرأ العامَّة {جُذاذًا} بضمِّ الجيم. والكسائيُّ بكسرِها، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السَّمَال بفتحِها. قال قطرب: هي في لغاتها كلِّها مصدرٌ فلا يثنَّى ولا يُجمع ولا يؤنَّثُ. والظاهرُ أن المضمومَ اسمٌ للشيءِ المكسَّرِ كالحُطام والرُّفات والفُتاتِ بمعنى الشيء المحطَّمِ والمفتَّتِ. وقال اليزيديُّ: المضمومُ جمعُ جُذاذة بالضم نحو: زُجاج في زُجاجة، والمكسورُ جمع جَذيذ نحو: كِرام في كريم. وقال بعضُهم: المفتوحُ مصدرٌ بمعنى المفعولِ أي: مَجْذوذين. ويجوز على هذا أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذوات جُذاذ. وقيل: المضمومُ جمع جُذاذَة بالضمِّ، والمسكورُ جمع جِذاذَة بالكسر، والمفتوح مصدرٌ.
وقرأ ابن وثاب {جُذُذًا} بضمَّتين دونَ إلفٍ بين الذَّالَيْن، وهو جمع جَذِيذ كقَليب وقُلُب. وقرئ بضمِّ الجيمِ وفتحِ الذال. وفيها وجهان، أحدهما: أن يكونَ أصلٌُها ضمتين، وإنما خُفِّف بإبدال الضمةِ فتحةً نحو: سُرَر وذُلَل في جمع سَرير وذَليل، وهي لغةٌ لبني كَلْب. والثاني: أنه جمع جُذَّة نحو: فُتَت في فُتَّة، ودُرَر في دُرَّة.
والجَذُّ: القطعُ والتكسير، وعليه قوله:
بنو المهلبِ جَذَّ اللهُ دابِرَهُمْ ** أَمْسَوْا رَمادًا فلا أَصْلٌ ولا طَرَفُ

وقد تقدَّم هذا مستوفىً في هود.
وأتى بـ: هم وهو ضميرُ العقلاءِ معاملةً للأصنام معاملةً العقلاءِ، حيث اعتقدوا فيها ذلك.
قوله: {إِلاَّ كَبِيرًا} استثناءٌ من المنصوب في {فَجَعَلهم}، أي: لم يكسِرْه بل تركه. و{لهم} صفةٌ له، والضمير يجوز أن يعود على الأصنام. وتأويلُ عودِ ضميرِ العقلاءِ عليها تقدَّم. ويجوز أن يكون عائدًا على عابديها. والضميرُ في {إليه} يجوز أن يعود إلى إبراهيم أي: يَرْجِعون إلى مقالتِه حين يظهر لهم الحقُّ، ويجوز أَنْ يكونَ عائدًا على الكبير، وبكلٍ قِيل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
لم يرضوا منه بتخطئة آبائهم حتى قالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ}.
فطالبوه بالبرهان إلى ما دعاهم إليه من الإيمان فقال.
{قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}.
فأحالَهم على النظر والاستدلال والتعرُّف من حيث أدلة القول لأنَّ إثباتَ الصانع لا يُعْرَفُ بالمعجزاتُ، وإنما المعجزاتُ علم بصدق الأنبياء عليهم السلام، وذلك فرع لمعرفة الصانع.
ثم بيَّن لهم أنَّ ما عبدوه من دون الله لا يستحق العبادة، ثم إنه لم يَحْفِلْ بما يُصيبه من البلاء ثقةً منه بأنَّ الله هو المتفرِّدُ بالإبداع، فلا أحد يملك له ضرًا من دون الله. اهـ.

.تفسير الآيات (59- 61):

قوله تعالى: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فلما عادوا إلى أصنامهم فوجدوها على تلك الحال علم أنه لابد لهم عند ذلك من أمر هائل، فاستؤنف الإخبار عنه بقوله: {قالوا} أي أهل الضلال: {من فعل هذا} الفعل الفاحش {بآلهتنا} ثم استأنفوا الخبر عن الفاعل فقالوا مؤكدين لعلمهم أن ما أقامه الخليل عليه السلام على بطلانها يميل القلوب إلى اعتقاد أن هذا الفعل حق: {إنه من الظالمين} حيث وضع الإهانة في غير موضعها، فإن الآلهة حقها الإكرام، لا الإهانة والانتقام {قالوا} أي بعضهم لبعض: {سمعنا} ولم يريدوا تعظيمه مع شهرته وشهرة أبيه وعظمتهما فيهم ليجترىء عليه من لا يعرفه فنكروه بقولهم: {فتى} أي شابًا من الشبان {يذكرهم} أي بالنقص والعيب {يقال له إبراهيم} يعنون: فهو الذي يظن أنه فعله {قالوا} مسببين عن هذا كارهين لأن يأخذوه سرًّا فيقال: أخذ بغير بينة، وهم كفرة وهو قد خالفهم في دينهم فإلى الله المشتكى من قوم يأخذون أكابر أهل دينهم بغير بينة بل ولا ظنة {فأتوا به} إلى هنا أي إلى بيت الأصنام {على أعين الناس} أي جهرة، والناس ينظرون إليه نظرًا لا خفاء معه حتى كأنه ماشٍ على أبصارهم، متمكنًا منها تمكن الراكب على المركوب، وعبر بالعين عن البصر ليفهم الأكابر، ويجمع القلة لإفادة السياق الكثرة، فيفيد الأمران قلة ما، لئلا يتوهم من جمع الكثرة جميع الناس مطلقًا {لعلهم} إذا رأوه {يشهدون} أي أنه فعل بالآلهة هذا الفعل، أو أنه ذكرها بسوء، فيكون ذلك مسوغًا لأخذه بذلك، أو يشهد بفعله بعضهم، لأن الشيء إذا حضر كانت أحواله بالذكر أولى منها إذا كان غائبًا، وكان هذا عين ما قصده الخليل عليه السلام أن يبين- في هذا المحفل الذي لا يوجد مثله- ما هم عليه من واضح الجهل المتضمن قلة العقل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} أي أن من فعل هذا الكسر والحطم لشديد الظلم معدود في الظلمة إما لجراءته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام، وإما لأنهم رأوا إفراطًا في كسرها وتماديًا في الاستهانة بها.
أما قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال الزجاج: ارتفع إبراهيم على وجهين: أحدهما: على معنى يقال هو إبراهيم.
والثاني: على النداء على معنى يقال له يا إبراهيم، قال صاحب الكشاف والصحيح أنه فاعل يقال لأن المراد الاسم دون المسمى.
المسألة الثانية:
ظاهر الآية يدل على أن القائلين جماعة لا واحد، فكأنهم كانوا من قبل قد عرفوا منه وسمعوا ما يقوله في آلهتهم فغلب على قلوبهم أنه الفاعل ولو لم يكن إلا قوله ما هذه التماثيل إلى غير ذلك لكفى.
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)}.
اعلم أن القوم لما شاهدوا كسر الأصنام، وقيل إن فاعله إبراهيم عليه السلام قالوا فيما بينهم: {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} قال صاحب الكشاف: على أعين الناس في محل الحال أي فأتوا به مشاهدًا أي بمرأى منهم ومنظر.
فإن قلت: ما معنى الاستعلاء في على؟ قلت: هو وارد على طريق المثل أي يثبت إتيانه في الأعين ثبات الراكب على المركوب.
أما قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} ففيه وجهان: أحدهما: أنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بينة فأرادوا أن يجيئوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون عليه بما قاله فيكون حجة عليه بما فعل.
وهذا قول الحسن وقتادة والسدي وعطاء وابن عباس رضي الله عنهم.
وثانيهما: وهو قول محمد ابن إسحق أي يحضرون فيبصرون ما يصنع به فيكون ذلك زاجرًا لهم عن الإقدام على مثل فعله، وفيه قول ثالث: وهو قول مقاتل والكلبي أن المراد مجموع الوجهين فيشهدون عليه بفعله ويشهدون عقابه. اهـ.